فصل: كتاب التوحيد والتوكل

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: إحياء علوم الدين **


بيان علامات الزهد

اعلم أنه قد يظن أن تارك المال زاهد وليس كذلك فإن ترك المال وإظهار الخشونة سهل على من أحب المدح بالزهد فكم من الرهابين من ردوا أنفسهم كل يوم إلى قدر يسير من الطعام ولازموا ديراً لا باب له وإنما مسرة أحدهم معرفة الناس حاله ونظرهم إليه ومدحهم له فذلك لا يدل على الزهد دلالة قاطعة بل لا بد من الزهد في المال والجاه جميعاً حتى يكمل الزهد في جميع حظوظ النفس من الدنيا بل قد يدعي جماعة الزهد مع لبس الأصواف الفاخرة والثياب الرفيعة كما قال الخواص في وصف المدعين إذ قال‏:‏ وقوم ادعوا الزهد ولبسوا الفاخر من اللباس يموهون بذلك على الناس ليهدى إليهم مثل لباسهم لئلا ينظر إليهم بالعين التي ينظر بها إلى الفقراء فيحتقروا فيعطوا كما تعطى المساكين ويحتجون لنفوسهم بابتاع العلم وأنهم على السنة وأن الأشياء داخلة إليهم وهم خارجون منها وإنما يأخذون بعلة غيرهم‏.‏

هذا إذا طولبوا بالحقائق وألجئوا إلى المضايق وكل هؤلاء أكلة الدنيا بالدين لم يعنوا بتصفية أسرارهم ولا بتهذيب أخلاق نفوسهم فظهرت عليهم صفاتهم فغلبتهم فادعوها حالاً لهم فهم مائلون إلى الدنيا متبعون للهوى‏.‏

فهذا كله كلام الخواص رحمه الله فإذن معرفة الزهد أمر مشكل بل حال الزهد على الزاهد مشكل‏.‏

وينبغي أن يعول في باطنه على ثلاث علامات‏:‏ العلامة الأولى‏:‏ أن لا يفرح بموجود ولا يحزن على مفقود كما قال تعالى‏:‏ ‏"‏ لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم ‏"‏ بل ينبغي أن يكون بالضد من ذلك‏:‏ وهو أن يحزن بوجود المال ويفرح بفقده‏.‏

العلامة الثانية‏:‏ أن يستوي عنده ذامه ومادحه فالأول علامة الزهد في المال والثاني علامة الزهد في الجاه‏.‏

العلامة الثالثة‏:‏ ان يكون أنسه بالله تعالى والغالب على قلبه حلاوة الطاعة إذ لا يخلو القلب عن حلاوة المحبة إما محبة الله وهما في القلب كالماء والهواء في القدح فالماء إذا دخل خرج الهواء ولا يجتمعان وكل من أنس بالله اشتغل به ولم يشتغل بغيره ولذلك قيل لبعضهم‏:‏ إلى ماذا أفضى بهم الزهد فقال‏:‏ إلى الأنس بالله فأما الأنس بالدنيا وبالله فلا يجتمعان‏.‏

وقد قال أهل المعرفة‏:‏ إذا تعلق الإيمان بظاهر القلب أحب الدنيا والآخرة جميعاً وعمل لهما وإذا بطن الإيمان في سويداء القلب وباشره أبغض الدنيا فلم ينظر إليها ولم يعمل لها ولهذا ورد في دعاء آدم عليه السلام‏:‏ اللهم إني أسألك إيماناً يباشر قلبي‏.‏

وقال أبو سليمان‏:‏ من شغل بنفسه شغل عن الناس - وهذا مقام العاملين‏.‏

ومن شغل بربه شغل عن نفسه - وهذا مقام العارفين‏.‏

والزاهد لا بد وأن يكون في أحد هذين المقامين ومقامه الأول أن يشغل نفسه بنفسه وعند ذلك يستوي عنده المدح والذم والوجود والعدم ولا يستدل بإمساكه قليلاً من المال على فقد زهده أصلاً‏.‏

قال ابن أبي الحواري‏:‏ قلت لأبي سليمان‏:‏ أكان داود الطائي زاهداً قال‏:‏ نعم‏.‏

قلت‏:‏ قد بلغني أنه ورث عن أبيه عشرين ديناراً فأنفقها في عشرين سنة فكيف كان زاهداً وهو يمسك الدنانير فقال‏:‏ أردت منه أن يبلغ حقيقة الزهد وأراد بالحقيقة لغاية فإن الزهد ليس له غاية لكثرة صفات النفس‏.‏

ولا يتم الزهد إلا بالزهد في جميعها فكل من ترك من الدنيا شيئاً مع القدرة عليه خوفاً على قلبه وعلى دينه فله مدخل في الزهد بقدر ما تركه وآخره أن يترك كل ما سوى الله حتى لا يتوسد حجراً كما فعله المسيح عليه السلام فنسأل الله تعالى أن يرزقنا من مباديه نصيباً وإن قل فإن أمثالنا لا يستجرئ على الطمع في غاياته وإن كان قطع الرجاء عن فضل الله غير مأذون فيه وإذا لاحظنا عجائب نعم الله تعالى علينا علمنا أن الله تعالى لا يتعاظمه شيء فلابعد في أن نعظم السؤال اعتماداً على الجود المجاوز لكل كمال‏.‏

فإذن علامة الزهد استواء الفقر والغنى والعز والذل والمدح والذم وذلك لغلبة الأنس بالله‏.‏

ويتفرع عن هذه العلامات علامات أخرى لا محالة‏:‏ مثل أن يترك الدنيا ولا يبالي من أخذها‏.‏

وقيل‏:‏ علامته أن يترك الدنيا كما هي فلا يقول أبني رباطاً أو أعمر مسجداً‏.‏

وقال يحيى لن معاذ‏:‏ علامة الزهد السخاء بالموجود‏.‏

وقال ابن خفيف‏:‏ علامته وجود الراحة في الخروج من الملك وقال أيضاً‏:‏ الزهد هو عزوف النفس عن الدنيا بلا تكلف‏.‏

وقال أبو سليمان‏:‏ الصوف علم من أعلام الزهد فلا ينبغي أن يلبس صوفاً بثلاثة دراهم وفي قلبه رغبة خمسة دراهم‏.‏

وقال أحمد بن حنبل وسفيان رحمهما الله‏:‏ علامة الزهد قصر الأمل‏.‏

وقال سري‏:‏ لا يطيب عيش الزاهد إذا اشتغل عن نفسه‏.‏

ولا يطيب عيش العارف إذا اشتغل بنفسه‏.‏

وقال النصراباذي‏:‏ الزاهد غريب في الدنيا والعارف غريب في الآخرة‏.‏

وقال يحيى بن معاذ‏:‏ علامة الزهد ثلاث‏:‏ عمل بلا علاقة وقول بلا طمع وعز بلا رياسة‏.‏

وقال أيضاً‏:‏ الزاهد لله يسعطك الخل والخردل والعارف يشمك المسك والعنبر‏.‏

وقال له رجل‏:‏ متى أدخل حانوت التوكل وألبس رداء الزهد وأقعد مع الزاهدين فقال‏:‏ إذا صرت من رياضتك لنفسك في السر إلى حد لو قطع الله عنك الرزق ثلاثة أيام لم تضعف في نفسك فأما ما لم تبلغ هذه الدرجة فجلوسك على بساط الزاهدين جهل ثم لا آمن عليك أن تفتضح وقال أيضاً‏:‏ الدنيا كالعروس ومن يطلبها ماشطتها والزاهد فيها يسخم وجهها وينتف شعرها ويخرق ثوبها والعارف يشتغل بالله تعالى ولا يلتفت إليها‏.‏

وقال السري‏:‏ مارست كل شيء من أمر الزهد فنلت منه ما أريد إلا الزهد في الناس فإني لم أبلغه ولم أطقه‏.‏

وقال الفضيل رحمه الله‏:‏ جعل الله الشر كله في بيت وجعل مفتاحه حب الدنيا وجعل الخير كله في بيت وجعل مفتاحه الزهد في الدنيا‏.‏

فهذا ما أردنا أن نذكره من حقيقة الزهد وأحكامه وإذا كان الزهد لا يتم إلا بالتوكل فلنشرع في بيانه إن شاء الله تعالى‏.‏

كتاب التوحيد والتوكل

وهو الكتاب الخامس من ربع المنجيات من كتاب إحياء علوم الدين بسم الله الرحمن الرحيم‏:‏ الحمد لله مدبر الملك والملكوت المنفرد بالعزة والجبروت‏.‏

الرافع السماء بغير عماد المقدر فيها أرزاق العباد‏.‏

الذي صرف أعين ذوي القلوب والألباب عن ملاحظة الوسائط والأسباب إلى مسبب الأسباب ورفع هممهم عن الالتفات إلى ما عداه والاعتمام على مدبر سواه فلم يعبدوا إلا إياه علماً بأنه الواحد الفرد الصمد الإله وتحقيقاً بأن جميع أصناف الخلق عباد أمثالهم لا يبتغي عندهم الرزق وأنه ما من ذرة إلا إلى الله خلقها وما من دابة إلا على الله رزقها فلما تحققوا أنه لرزق عباده ضامن وبه كفيل توكلوا عليه فقالوا‏:‏ حسبنا الله ونعم الوكيل‏.‏

والصلاة على محمد قامع الأباطيل الهادي إلى سواء السبيل وعلى آله وسلم تسليماً كثيراً‏.‏

أما بعد فإن التوكل منزل من منازل الدين ومقام من مقامات الموقنين بل هو من معالي درجات المقربين وهو في نفسه غامض من حيث العلم ثم هو شاق من حيث العمل ووجه غموضه من حيث الفهم أن ملاحظة الأسباب والاعتماد عليها شرك في التوحيد والتثاقل عنها بالكلية طعن في ألسنة وقدح في الشرع والاعتماد على الأسباب من غير أن ترى أسباباً تغيير في وجه العقل وانغماس في غمرة الجهل وتحقيق معنى التوكل على وجه يتوافق فيه مقتضى التوحيد والنقل والشرع في غاية الغموض والعسر ولا يقوى على كشف هذا الغطاء مع شدة الخفاء إلا سماسرة العلماء الذين اكتحلوا من فضل الله تعالى بأنوار الحقائق فأبصروا وتحققوا ثم نطقوا بالإعراب عما شاهدوه من حيث استنطقوا‏.‏

ونحن الآن نبدأ بذكر فضيلة التوكل على سبيل التقدمة ثم نردفه بالتوحيد في الشطر الأول من الكتاب ونذكر حال التوكل وعمله في الشطر الثاني‏.‏

بيان فضيلة التوكل

أما من الآيات‏:‏ فقد قال تعالى‏:‏ ‏"‏ وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين ‏"‏‏.‏

وقال عز وجل‏:‏ ‏"‏ وعلى الله فليتوكل المتوكلون ‏"‏‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏"‏ ومن يتوكل على الله فهو حسبه ‏"‏‏.‏

وقال سبحانه وتعالى‏:‏ ‏"‏ إن الله يحب المتوكلين ‏"‏ وأعظم بمقام موسوم بمحبة الله تعالى صاحبه ومضمون كفاية الله تعالى ملابسه فمن الله تعالى حسبه وكافيه ومحبه ومراعيه‏:‏ فقد فاز الفوز العظيم فإن المحبوب لا يعذب ولا يبعد ولا يحجب‏.‏

وقالت تعالى‏:‏ ‏"‏ أليس الله بكاف عبده ‏"‏‏.‏

فطالب الكفاية من غيره والتارك للتوكل هو المكذب لهذه الآية‏.‏

فإنه سؤال في معرض استنطاق بالحق كقوله تعالى‏:‏ ‏"‏ هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً ‏"‏‏.‏

وقال عز وجل‏:‏ ‏"‏ ومن يتوكل على الله فإن الله عزيز حكيم ‏"‏‏.‏

أي عزيز لا يذل من استجار به ولا يضيع من لاذ بجنابه والتجأ إلى ذمامه وحماه وحكيم لا يقصر عن تدبير من توكل على تدبيره‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏"‏ إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم ‏"‏‏.‏

بين أن كل ما سوى الله تعالى عبد مسخر‏.‏

حاجته مثل حاجتكم فكيف من يتوكل عليه‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏"‏ إن الذين تعبدون من دون الله لا يملكون لكم رزقاً فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه ‏"‏‏.‏

وقال عز وجل‏:‏ ‏"‏ ولله خزائن السموات والأرض ولكن المنافقين لا يفقهون ‏"‏‏.‏

وقال عز وجل‏:‏ ‏"‏ يدبر الأمر ما من شفيع إلا من بعد إذنه ‏"‏‏.‏

وكل ما ذكر في القرآن من التوحيد فهو تنبيه على قطع الملاحظة عن الأغيار والتوكل على الواحد القهار‏.‏

وأما الأخبار‏:‏ فقد قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه ابن مسعود‏:‏ ‏"‏ أريت الأمم في الموسم فرأيت أمتي قد ملأوا السهل والجبل فأعجبتني كثرتهم وهيأتهم فقيل لي‏:‏ أرضيت قلت‏:‏ نعم قيل‏:‏ ومع هؤلاء سبعون ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب ‏"‏ قيل‏:‏ من هم يا رسول الله قال‏:‏ ‏"‏ الذين لا يكتوون ولا يتطيرون ولا يسترقون وعلى ربهم يتوكلون ‏"‏ فقام عكاشة وقال‏:‏ يا رسول الله ادع الله أن يجعلني منهم فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم‏:‏ ‏"‏ اللهم اجعله منهم ‏"‏ فقال آخر فقال‏:‏ يا رسول الله ادع الله أن يجعلني منهم فقال صلى الله عليه وآله وسلم‏:‏ ‏"‏ سبقك بها عكاشة ‏"‏‏.‏

وقال صلى الله تعالى عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصاً وتروح بطاناً ‏"‏‏.‏

وقال صلى الله تعالى عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ من انقطع إلى الله عز وجل كفاه الله تعالى كل مؤنة ورزقه من حيث لا يحتسب ومن انقطع إلى الدنيا وكله الله إليها ‏"‏‏.‏

وقال صلى الله تعالى عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ من سره أن يكون أغنى الناس فليكن بما عند الله أوثق منه ويروى عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أنه كان إذا أصاب أهله خصاصة قال‏:‏ ‏"‏ قوموا إلى الصلاة ‏"‏ ويقول‏:‏ ‏"‏ بهذا أمرني ربي عز وجل قال عز وجل‏:‏ ‏"‏ وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها ‏"‏ الآية‏.‏

وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ لم يتوكل من استرقى واكتوى ‏"‏‏.‏

وروي أنه لما قال جبريل لإبراهيم عليهما السلام وقد رمي إلى النار بالمنجنيق‏:‏ ألك حاجة قال‏:‏ أما إليك فلا وفاءً بقوله حسبي الله ونعم الوكيل إذا قال ذلك حين أخذ ليرمى فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏"‏ وإبراهيم الذي وفى ‏"‏‏.‏

وأوحى الله تعالى إلى داود عليه السلام‏:‏ يا داود ما من عبد يعتصم بي دون خلقي فتكيده السموات والأرض إلا جعلت له مخرجاً‏.‏

وأما الآثار‏:‏ فقد قال سعيد بن جبير‏:‏ لدغتني عقرب فأقسمت علي أمي لتسترقين فناولت الراقي يدي التي لم تلدغ‏.‏

وقرأ الخواص قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ وتوكل على الحي الذي لا يموت ‏"‏ إلى آخر فقال‏:‏ ما ينبغي للعبد بعد هذه الآية أن يلجأ إلى أحد غير الله تعالى‏.‏

وقيل لبعض العلماء في منامه‏:‏ من وثق بالله تعالى فقد أحرز قوته‏.‏

وقال بعض العلماء‏:‏ لا يشغلك المضمون لك من الرزق عن المفروض عليك من العمل فتضيع أمر آخرتك ولا تنال من الدنيا إلا ما قد كتب الله لك‏.‏

وقال يحيى بن معاذ‏:‏ في وجود العبد الرزق من غير طلب دلالة على أن الرزق مأمور بطلب العبد‏.‏

وقال إبراهيم بن أدهم‏:‏ سألت بعض الرهبان‏:‏ من أين تأكل فقال لي‏:‏ ليس هذا العلم عندي ولكن سل ربي من أين يطعمني‏.‏

وقال هرم بن حيان لأويس القرني‏:‏ أين تأمرني أن أكون فأومأ إلى الشام‏.‏

قال هرم‏:‏ كيف المعيشة قال أويس‏:‏ أف لهذه القلوب قد خالطها الشك فما تنفعها الموعظة‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ متى رضيت بالله وكيلاً وجدت إلى كل خير سبيلاً نسأل الله تعالى حسن الأدب‏.‏

الشطر الأول في التوحيد

بيان حقيقة التوحيد الذي هو أصل التوكل

اعلم أن التوكل من باب الإيمان وجميع أبواب الإيمان لا تنتظم إلا بعلم وحال وعمل والتوكل كذلك ينتظم من - علم - هو الأصل و - عمل - هو الثمرة و - حال - هو المراد باسم التوكل‏.‏

فلنبدأ ببيان العلم الذي هو الأصل وهو المسمى إيماناً في أصل اللسان إذ الإيمان هو التصديق وكل تصديق بالقلب فهو علم وإذا قوي سمي يقيناً ولكن أبواب اليقين كثيرة ونحن إنما نحتاج منها إلى ما نبني عليه التوكل وهو التوحيد الذي يترجمه قولك‏:‏ ‏"‏ لا إله إلا الله وحده لا شريك له ‏"‏ والإيمان بالقدرة التي يترجم عنها قولك ‏"‏ له الملك ‏"‏ والإيمان بالجود والحكمة الذي يدل عليه قولك ‏"‏ وله الحمد ‏"‏ فمن قال ‏"‏ لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير ‏"‏ تم له الإيمان الذي هو أصل التوكل أعني أن يصير معنى هذا القول وصفاً لازماً لقلبه غالباً عليه فأما التوحيد فهو الأصل والقول فيه يطول وهو من علم المكاشفة ولكن بعض علوم المكاشفات متعلق بالأعمال بواسطة الأحوال ولا يتم علم المعاملة إلا بها فإذن لا تتعرض إلا للقدر الذي يتعلق بالمعاملة وإلا فالتوحيد هو البحر الخضم الذي لا ساحل له فنقول‏:‏ للتوحيد أربع مراتب وينقسم إلى لب وإلى لب اللب وإلى قشر وإلى قشر القشر‏.‏

ولنمثل ذلك تقريباً إلى الأفهام الضعيفة بالجوز في قشرته العليا فإن له قشرتين وله لب وللب دهن هو لب اللب‏:‏ فالرتبة الأولى من التوحيد‏:‏ هي أن يقول الإنسان بلسانه ‏"‏ لا إله إلا الله ‏"‏ وقلبه غافل عنه أو منكر له كتوحيد المنافقين‏.‏

والثانية‏:‏ أن يصدق بمعنى اللفظ قلبه كما صدق به عموم المسلمين وهو اعتقاد العوام‏.‏

والثالثة‏:‏ أن يشاهد ذلك بطريق الكشف بواسطة نور الحق وهو مقام المقربين وذلك بأن يرى أشياء كثيرة ولكن يراها على كثرتها صادرة عن الواحد القهار‏.‏

والرابعة‏:‏ أن لا يرى في الوجود إلا واحداً وهي مشاهدة الصديقين وتسمية الصوفية الفناء في التوحيد لأنه من حيث لا يرى إلا واحداً فلا يرى نفسه أيضاً وإذا لم ير نفسه لكونه مستغرقاً بالتوحيد كان فانياً عن نفسه في توحيده بمعنى أنه فني عن رؤية نفسه والخلق فالأول موحد بمجرد اللسان ويعصم ذلك لصاحبه في الدنيا عن السيف والسنان‏.‏

والثاني موحد بمعنى أنه معتقد بقلبه مفهوم لفظه وقلبه خال عن التكذيب بما انعقد عليه قلبه وهو عقدة على القلب ليس فيه انشراح وانفساح ولكنه يحفظ صاحبه من العذاب في الآخرة إن توفي عليه ولم تضعف بالمعاصي عقدته ولهذا العقد حيل يقصد بها تضعيفه وتحليله تسمى بدعة وله حيل يقصد بها دفع حيلة التحليل والتضعيف ويقصد بها أيضاً إحكام هذه العقدة وشدها على القلب وتسمى كلاماً والعارف به يسمى متكلماً وهو في مقابلة المبتدع ومقصده دفع المبتدع عن تحليل هذه العقدة عن قلوب العوام وقد يخص المتكلم باسم الموحد من حيث إنه يحمي بكلامه مفهوم لفظ التوحيد على قلوب العوام حتى لا تنحل عقدته‏.‏

والثالث موحد بمعنى أنه لم يشاهد إلا فاعلاً واحداً إذا انكشف له الحق كما هو عليه ولا يرى فاعلاً بالحقيقة إلا واحداً وقد انكشفت له الحقيقة كما هي عليه لأنه كلف قلبه أن يعقد على مفهوم لفظ الحقيقة فإن تلك رتبة العوام والمتكلمين إذ لم يفارق المتكلم العامي في الاعتقاد بل في صفة تلفيق الكلام الذي به حيل المبتدع عن تحليل هذه العقدة‏.‏

والرابع موحد بمعنى أنه لم يحضر في شهوده غير الواحد فلا يرى الكل من حيث إنه كثير بل من حيث إنه واحد وهذه هي الغاية القصوى في التوحيد فالأول كالقشرة العليا من الجوز والثاني كالقشرة السفلى والثالث كاللب والرابع كالدهن المستخرج من اللب‏.‏

وكما أن القشرة العليا من الجوز لا خير فيها بل إن أكل فهو مر المذاق وإن نظر إلى باطنه فهو كريه المنظر وإن اتخذ حطباً أطفأ النار وأكثر الدخان وإن ترك في البيت ضيق المكان فلا يصلح إلا أن يترك مدة على الجوز للصون ثم يرمى به عنه فكذلك التوحيد بمجرد اللسان دون التصديق بالقلب عديم الجدوى كثير الضرر مذموم الظاهر والباطن لكنه ينفع مدة في حفظ القشرة السفلى إلى وقت الموت‏:‏ والقشرة السفلى هي القلب والبدن‏.‏

وتوحيد المنافق يصون بدنه عن سيف الغزاة فإنهم لم يؤمروا بشق القلوب والسيف إنما يصيب جسم البدن وهو القشرة وإنما يتجرد عنه بالموت فلا يبقى لتوحيده فائدة بعده وكما أن القشرة السفلى ظاهرة النفع بالإضافة إلى القشرة العليا فإنها تصون اللب وتحرسه عن الفساد عند الادخار وإذا فصلت أمكن أن ينتفع بها حطباً لكنها نازلة القدر بالإضافة إلى اللب وكذلك مجرد الاعتقاد من غير كشف كثير النفع بالإضافة إلى مجرد نطق اللسان ناقص القدر بالإضافة إلى الكشف والمشاهدة التي تحصل بانشراح الصدر وانفساحه وإشراق نور الحق فيه إذ ذاك الشرح هو المراد بقوله تعالى‏:‏ ‏"‏ فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ‏"‏ وبقوله عز وجل‏:‏ ‏"‏ أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه ‏"‏ وكما أن اللب نفيس في نفسه بالإضافة إلى القشر وكله المقصود ولكنه لا يخلو عن شوب عصارة بالإضافة إلى الدهن المستخرج منه فكذلك توحيد الفعل مقصد عال للسالكين لكنه لا يخلو عن شوب ملاحظة الغير والالتفات إلى الكثرة بالإضافة إلى من لا يشاهد سوى الواحد الحق‏.‏

فإن قلت‏:‏ كيف يتصور أن لا يشاهد إلا واحد وهو يشاهد السماء والأرض وسائر الأجسام المحسوسة وهي كثيرة فكيف يكون الكثير واحداً فاعلم أن هذه غاية علوم المكاشفات‏.‏

وأسرار هذا العلم لا يجوز أن تسطر في كتاب فقد قال العارفون‏:‏ إفشاء سر الربوبية كفر ثم هو غير متعلق بعلم المعاملة نعم ذكر ما يكسر سورة استبعادك ممكن وهو أن الشيء قد يكون كثيراً بنوع مشاهدة واعتبار ويكون واحداً بنوع آخر من المشاهدة والاعتبار وهذا كما أن الإنسان كثير إن التفت إلى روحه وجسده وأطرافه وعروقه وعظامه وأحشائه وهو باعتبار آخر ومشاهدة أخرى واحد إذ نقول إنه إنسان واحد فهو بالإضافة إلى الإنسانية واحد وكم من شخص يشاهد إنساناً ولا يخطر بباله كثرة أمعائه وعروقه وأطرافه وتفصيل روحه وجسده وأعضائه والفرق بينهما أنه في حالة الاستغراق والاستهتار به مستغرق بواحد ليس فيه تفريق وكأنه في عين الجمع والملتفت إلى الكثرة في تفرقه فكذلك كل ما في الوجود من الخالق والمخلوق له اعتبارات ومشاهدات كثيرة مختلفة فهو باعتبار واحد من الاعتبارات واحد وباعتبارات أخر سواء كثير وبعضها أشد كثرة من بعض ومثاله الإنسان وإن كان لا يطابق الغرض ولكنه ينبه في الجملة على كيفية مصير الكثرة في حكم المشاهدة واحداً ويستبين بهذا الكلام ترك الإنكار والجحود لمقام لم تبلغه به إيمان تصديق فيكون لك من حيث إنك مؤمن بهذا التوحيد نصيب وإن لم يكن ما آمنت به صفتك كما أنك إذا آمنت بالنبوة وإن لم تكن نبياً كان لك نصيب منه بقدر قوة إيمانك وهذه المشاهدة التي لا يظهر فيها إلا الواحد الحق تارة تدوم وتارة تطرأ كالبرق الخاطف وهو الأكثر والدوام نادر عزيز وإلى هذا أشار الحسين بن منصور الحلاج حيث رأى الخواص يدور في الأسفار فقال‏:‏ فيماذا أنت فقال‏:‏ أدور في الأسفار لأصحح حالتي في التوكل وقد كان من المتوكلين فقال الحسين‏:‏ قد أفنيت عمرك في عمران باطنك فأين الفناء في التوحيد فكأن الخواص كان في تصحيح المقام الثالث في التوحيد فطالبه بالمقام الرابع فهذه مقامات الموحدين في التوحيد على سبيل الإجمال‏.‏

فإن قلت‏:‏ فلا بد لهذا من شرح بمقدار ما يفهم كيفية ابتناء التوكل عليه‏!‏ فأقول أما الرابع فلا يجوز الخوض في بيانه وليس التوكل أيضاً مبنياً عليه بل يحصل حال التوكل بالتوحيد الثالث‏.‏

وأما الأول وهو النفاق فواضح وأما الثاني وهو الاعتقاد فهو موجود في عموم المسلمين وطريق تأكيده بالكلام ودفع حيل المبتدعة فيه مذكور في عالم الكلام وقد ذكرنا في كتاب الاقتصاد في الاعتقاد القدر المهم منه‏.‏

وأما الثالث‏:‏ فهو الذي يبني عليه التوكل فلنذكر منه القدر الذي يرتبط التوكل به دون تفصيله الذي لا يحتمله أمثال هذا الكتاب‏.‏

وحاصله‏:‏ أن ينكشف لك أن لا فاعل إلا الله تعالى وأن كل موجود من خلق ورزق وعطاء ومنع وموت وغنى وفقر إلى غير ذلك مما ينطلق عليه اسم فالمنفرد بإبداعه واختراعه هو الله عز وجل لا شريك له فيه وإذا انكشف لك هذا لم تنظر إلى غيره بل كان منه خوفك وإليه رجاؤك وبه ثقتك وعليه اتكالك فإنه الفاعل على الانفراد دون غيره وما سواه مسخرون لا استقلال لهم بتحريك ذرة من ملكوت السموات والأرض وإذا انفتحت لك أبواب المكاشفة اتضح لك هذا اتضاحاً أتم من المشاهدة بالبصر وإنما يصدك الشيطان عن هذا التوحيد في مقام يبتغي به أن يطرق إلى قلبك شائبة الشرك بسببين‏:‏ أحدهما الالتفات إلى اختيار الحيوانات‏.‏

والثاني الالتفات إلى الجمادات وأما الالتفات إلى الجمادات فكاعتمادك على المطر في خروج الزرع ونباته ونمائه وعلى الغيم في نزول المطر وعلى البرد في اجتماع الغيم وعلى الريح في استواء السفينة وسيرها‏:‏ وهذا كله شرك في التوحيد وجهل بحقائق الأمور ولذلك قال تعالى‏:‏ ‏"‏ فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون ‏"‏ قيل‏:‏ معناه أنهم يقولون لولا استواء الريح لما نجونا‏.‏

ومن انكشف له أمر العالم كما هو عليه علم أن الريح هو الهواء والهواء لا يتحرك ما لم يحركه محرك وكذلك محركه وهكذا إلى أن ينتهي إلى المحرك الأول الذي لا محرك له ولا هو متحرك في نفسه عز وجل فالتفات العبد في النجاة إلى الريح يضاهي التفات من أخذ لتحز رقبته فكتب الملك توقيعاً بالعفو عنه وتخليته فأخذ يشتغل بذكر الحبر والكاغد والقلم الذي به كتب التوقيع يقول‏:‏ لولا القلم لما تخلصت فيرى نجاته من القلم لا من محرك القلم وهو غاية الجهل ومن علم أن القلم لا حكم له في نفسه وإنما هو مسخر في يد الكاتب لم يلتفت إليه ولم يشكر إلا الكاتب بل ربما يدهشه فرح النجاة وشكر الملك والكاتب من أن يخطر بباله القلم والحبر والدواة والشمس والقمر والنجوم والمطر والغيم والأرض وكل حيوان وجماد مسخرات في قبضة القدرة كتسخيرة القلم في يد الكاتب بل هذا تمثيل في حقك لاعتقادك أن الملك الموقع هو الكاتب للتوقيع والحق أن الله تبارك وتعالى هو الكاتب لقوله تعالى‏:‏ ‏"‏ وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى ‏"‏ فإذا انكشف لك أن جميع ما في السموات والأرض مسخرات على هذا الوجه انصرف عنك الشيطان خائباً وأيس عن مزج توحيدك بهذا الشرك فأتاك في المهلكة الثانية وهي الالتفات إلى اختيار الحيوانات في الأفعال الاختيارية ويقول‏:‏ كيف ترى الكل من الله وهذا الإنسان يعطيك رزقك باختياره فإن شاء أعطاك وإن شاء قطع عنك وهذا الشخص هو الذي يحز رقبتك بسيفه وهو قادر عليك إن شاء حز رقبتك وإن شاء عفا عنك فكيف لا تخافه وكيف لا ترجوه وأمرك بيده وأنت تشاهد ذلك ولا تشك فيه ويقول له أيضاً نعم إن كنت لا ترى القلم لأنه مسخر فكيف لا ترى الكاتب بالقلم وهو المسخر له وعند هذا زل أقدام الأكثرون إلا عباد الله المخلصين الذين لا سلطان عليهم للشيطان اللعين فشاهدوا بنور البصائر كون الكاتب مسخراً مضطراً كما شاهد جميع الضعفاء كون القلم مسخراً وعرفوا أن غلط الضعفاء في ذلك كغلط النملة مثلاً لو كانت تدب على الكاغد فترى رأس القلم يسود الكاغد ولم يمتد بصرها إلى اليد والأصابع فضلاً عن صاحب اليد فغلطت وظنت القلم هو المسود للبياض وذلك لقصور بصرها عن مجاوزة رأس القلم لضيق حدقتها فكذلك من لم ينشرح بنور الله تعالى صدره للإسلام قصرت عن ملاحظة جبار السموات والأرض ومشاهدة كونه قاهراً وراء الكل فوقف في الطريق على الكاتب وهو جهل محض بل أرباب القلوب والمشاهدات قد أنطق الله تعالى في حقهم كل ذرة في السموات والأرض بقدرته التي بها نطق كل شيء حتى سمعوا تقديسها وتسبيحها لله تعالى وشهادتها على نفسها بالعجز بلسان ذلق تتكلم بلا حرف ولا صوت لا يسمعه الذين هم عن السمع معزولون ولست أعني به السمع الظاهر الذي لا يجاوز بالأصوات فإن الحمار شريك فيه ولا قدر لما يشارك فيه البهائم وإنما أريد به سمعاً يدرك به كلام ليس بحرف ولا صوت ولا هو عربي ولا عجمي‏.‏

فإن قلت‏:‏ فهذه أعجوبة لا يقبلها العقل فصف لي كيفية نطقها وأنها كيف نطقت وبماذا نطقت وكيف سبحت وقدست وكيف شهدت على نفسها بالعجز فاعلم أن لكل ذرة في السماوات والأرض مع أرباب القلوب مناجاة في السر وذلك مما لا ينحصر ولا يتناهى فإنها كلمات تستمد من بحر كلام الله تعالى الذي لا نهاية له‏:‏ ‏"‏ قل لو كان البحر مداداً لكلمات ربي لنفد البحر ‏"‏ الآية ثم إنها تتناجى بأسرار الملك والملكوت وإفشاء السر لؤم بل صدور الأحرار قبور الأسرار وهل رأيت قط أميناً على أسرار ملك قد نوجي بخفاياه فنادى بسره على ملأ من الخلق ولو جاز إفشاء كل سر لنا لما قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً ‏"‏ بل كان يذكر ذلك لهم حتى يبكون ولا يضحكون‏.‏

ولما نهى عن إفشاء سر القدرولما قال‏:‏ ‏"‏ إذا ذكر النجوم فأمسكوا وإذا ذكر القدر فأمسكوا وإذا ذكر أصحابي فأمسكوا ‏"‏ ولما خص حذيفة رضي الله عنه ببعض الأسرار‏.‏

فإذن عن حكايات مناجاة ذرات الملك والملكوت لقلوب أرباب المشاهدات مانعان‏:‏ أحدهما استحالة إفشاء السر والثاني‏:‏ خروج كلماتها عن الحصر والنهاية ولكنا في المثال الذي كنا - وهي حركة القلم - تحكي من مناجاتها قدراً يسيراً يفهم به على الإجمال كيفية ابتناء التوكل عليه ونرد كلماتها إلى الحروف والأصوات وإن لم تكن حروفاً وأصواتاً ولكن هي ضرورة التفهيم فنقول‏:‏ قال بعض الناظرين عن مشكاة نور الله تعالى للكاغد وقد رآه اسود وجهه بالحبر‏:‏ ما بال وجهك كان أبيض مشرقاً والآن قد ظهر عليه السواد فلم سودت وجهك وما السبب فيه فقال الكاغد‏:‏ ما انصفتني في هذه المقالة‏!‏ فإني ما سودت وجهي بنفسي ولكن سل الحبر فإنه كان مجموعاً في المحبرة التي هي مستقره ووطنه فسافر عن الوطن ونزل بساحة وجهي ظلماً وعدواناً‏!‏ فقال‏:‏ صدقت فسأل الحبر عن ذلك فقال‏:‏ ما أنصفتني فإني كنت في المحبرة وادعاً ساكناً عازماً على أن لا أبرح منها فاعتدى علي القلم بطمعه الفاسد واختطفني من وطني وأجلاني عن بلادي وفرق جمعي وبددني كما ترى على ساحة بيضاء فالسؤال عليه لا علي‏!‏ فقال‏:‏ صدقت ثم سأل القلم عن السبب في ظلمه وعدوانه وإخراج الحبر من أوطانه فقال‏:‏ سل اليد والأصابع فإني كنت قصباً نابتاً على شط الأنهار متنزهاً بين خضرة الأشجار فجاءتني اليد بسكين فنحت عن قشري ومزقت عن ثيابي واقتلعتني من أصلي وفصلت بين أنابيبي ثم برتني وشقت رأسي ثم غمستني في سواد الحبر ومرارته وهي تستخدمني وتمشيني على قمة رأسي

ولقد نثرت الملح على جرحي بسؤالك وعتابك فتنح عني وسل من قهرني فقال‏:‏ صدقت ثم سأل اليد عن ظلمها وعدوانها على القلم واستخدامها له فقالت اليد‏:‏ ما أنا إلا لحم وعظم ودم وهل رأيت لحماً يظلم أو جسماً يتحرك بنفسه وإنما أنا مركب مسخر ركبني فارس يقال له القدرة والعزة فهي التي ترددني وتجول بي في نواحي الأرض أما ترى المدر والحجر والشجر لا يتعدى شيء منها مكانه ولا يتحرك بنفسه إذ لم يركبه مثل هذا الفارس القوي القاهر أما ترى أيدي الموتى تساويني في صورة اللحم والعظم والدم ثم لا معاملة بينها وبين القلم فأنا أيضاً من حيث أنا لا معاملة بيني وبين القلم فسل القدرة عن شأني فإني مركب أزعجني من ركبني فقال‏:‏ صدقت ثم سأل القدرة عن شأنها في استعمالها اليد وكثرة استخدامها وترديدها فقالت‏:‏ دع عنك لومي ومعاتبتي فكم من لائم ملوم وكم من ملوم لا ذنب له وكيف خفي عليك أمري وكيف ظننت أني ظلمت اليد لما ركبتها وقد كنت لها راكبة قبل التحريك وما كنت أحركها ولا أستسخرها بل كنت نائمة ساكنة نوماً ظن الظانون بي أني ميتة أو معدومة لأني ما كنت أتحرك ولا أحرك حتى جاءني موكل أزعجني وأرهقني إلى ما تراه مني فكانت لي قوة على مساعدته ولم تكن لي قوة على مخالفته وهذا الموكل يسمى الإرادة ولا أعرفه إلا باسمه وهجومه وصياله إذ أزعجني من غمرة النوم وأرهقني إلى ما كان لي مندوحة عنه لو خلاني ورأيي فقال‏:‏ صدقت ثم سأل الإرادة ما الذي جرأك على هذه القدرة الساكنة المطمئنة حتى صرفتها وأرهقتها إليه إرهاقاً فلم تجد عنه مخلصاً ولا مناصاً فقالت الإرادة‏:‏ لا تعجل علي فلعل لنا عذراً وأنت تلوم فإني ما انتهضت بنفسي ولكن أنهضت وما انبعثت ولكني بعثت بحكم قاهر وأمر جازم وقد كنت ساكنة قبل مجيئه ولكن ورد علي من حضرة القلب رسول العلم على لسان العقل بالإشخاص للقدرة فأشخصتها باضطرار فإني مسكينة مسخرة تحت قهر العلم والعقل ولا أدري بأي جرم وقفت عليه وسخرت له وألزمت طاعته لكني أدري أني في دعة وسكون ما لم يرد علي هذا الوارد القاهر وهذا الحاكم العادل أو الظالم وقد وقفت عليه وألزمت طاعته إلزاماً بل لا يبقى لي معه مهما جزم حكمه طاقة على المخالفة لعمري ما دام هو في التردد مع نفسه والنحير في حكمه فأنا ساكنة لكن مع استشعار وانتظار لحكمه فإذا انجزم حكمه أزعجت بطبع وقهر تحت طاعته وأشخصت القدرة لتقوم بموجب حكمه فسل العلم عن شأني ودع عني عتابك فإني كما قال القائل‏:‏ متى ترحلت عنقومٍ وقد قدروا أن لا تفارقهم فالراحلون هم فقال‏:‏ صدقت وأقبل على العلم والعقل مطالباً لهم ومعاتباً إياهم على استنهاض الإرادة وتسخيرها لإشخاص القدرة فقال العقل‏:‏ أما أنا فسراج ما اشتعلت بنفسي ولكن أشعلت وقال القلب‏:‏ أما أنا فلوح ما انبسطت بنفسي ولكن بسطت وقال العلم‏:‏ أما أنا فنقش نقشت في بياض لوح القلب لما أشرق سراج العقل وما انخططت بنفسي فكم كان هذا اللوح قبل خالياً عني فسل القلم عني لأن الخط لا يكون إلا بالقلم فعند ذلك تتعتع السائل ولم يقنعه جواب وقال‏:‏ قد طال تعبي في هذا الطريق وكثرت منازلي ولا يزال يحيلني من طمعت في معرفة هذا الأمر منه على غيره ولكني كنت أطيب نفساً بكثرة الترداد لما كنت أسمع كلاماً مقبولاً لا في الفؤاد وعذراً ظاهراً في دفع السؤال فأما قولك‏:‏ إني خط ونقش وإنما خطني قلم فلست أفهمه فإني لا أعلم قلماً إلا من القصب ولا لوحاً إلا من الحديد أو الخشب ولا خطاً إلا بالحبر ولا سراجاً إلا من النار وإني لأسمع في هذا المنزل حديث اللوح والسراج والخط والقلم ولا أشاهد من ذلك شيئاً أسمع جعجعة ولا أرى طحناً‏.‏

فقال له القلم‏:‏ إن صدقت فيما قلت فبضاعتك مزجاة وزادك قليل ومركبك ضعيف واعلم أن المهالك في الطريق التي توجهت إليها كثيرة‏:‏ فالصواب لك أن تنصرف وتدع ما أنت فيه فما هذا يعشك فأدرج عنه فكل ميسر لما خلق له وإن كنت راغباً في استتمام الطريق إلى المقصد فألق معك وأنت شهيد‏.‏

واعلم أن العوالم في طريقك هذا ثلاثة‏:‏ عالم الملك والشهادة أولها ولقد كان الكاغد والحبر والقلم واليد من هذا العالم وقد جاوزت تلك المنازل على سهولة والثاني عالم الملكوت وهو ورائي فإذا جاوزتني انتهيت إلى منازله وفيه المهامة الفيح والجبال الشاهقة والبحار المغرقة ولا أدري كيف تسلم فيها والثالث هو عالم الجبروت وهو بين عالم الملك وعالم الملكوت ولقد قطعت منها ثلاث منازل في أوائلها منزلة القدرة والإرادة والعلم وهو واسطة بين عالم الملك والشهادة والملكوت لأن عالم الملك أسهل منه طريقاً وعالم الملكوت أوعر منه منهجاً وإنما عالم الجبروت بين عالم الملك وعالم الملكوت يشبه السفينة التي هي في الحركة بين الأرض والماء فلا هي في حد اضطراب الماء ولا هي في حد سكون الأرض وثبوتها وكل من يمشي على الأرض في عالم الملك والشهادة فإن جاوزت قوته إلى أن يقوى على ركوب السفينة كان كمن يمشي في عالم الجبروت فإن انتهى إلى أن يمشي على الماء من غير سفينة مشى في عالم الملكوت من غير تتعتع فإن كنت لا تقدر على المشي على الماء فانصرف فقد جاوزت الأرض وخلفت السفينة ولم يبق بين يديك إلا الماء الصافي وأول عالم الملكوت مشاهدة القلم الذي يكتب به العلم في لوح القلب وحصول اليقين الذي يمشي به على الماء أما سمعت قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في عيسى عليه السلام ‏"‏ لو زاد يقيناً لمشي على الهواء ‏"‏ لما قيل له إنه كان يمشي على الماء فقال السالك السائل‏:‏ قد تحيرت في أمري واستشعر قلبي خوفاً مما وصفته من خطر الطريق ولست أدري أطيق قطع هذه المهامة التي وصفتها أم لا فهل لذلك من علامة قال‏:‏ نعم افتح بصرك واجمع ضوء عينيك وحدقه نحوي فإن ظهر لك القلم الذي به أكتب في لوح القلب فيشبه أن تكون أهلاً لهذا الطريق فإن كل من جاوز عالم الجبروت وقرع باباً من أبواب الملكوت كوشف بالقلم أما ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم في أول أمره كوشف بالقلم إذ أنزل عليه ‏"‏ اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم ‏"‏ فقال السالك‏:‏ لقد فتحت بصري وحدقته فوالله ما أرى قصباً ولا خشباً ولا أعلم قلماً إلا كذلك فقال العلم‏:‏ لقد أبعدت النجعة أما سمعت أن متاع البيت يشبه رب البيت أما علمت أن الله تعالى لا تشبه ذاته سوائر الذوات فكذلك لا تشبه يده الأيدي ولا قلمه الأقلام ولا كلامه سائر الكلام ولا خطه سائر الخطوط وهذه أمور إلهية من عالم الملكوت فليس الله تعالى في ذاته بجسم ولا هو في مكان بخلاف غيره ولا يده لحم وعظم ودم بخلاف الأيدي ولاقلمه من قصب ولا لوحه من خشب ولا كلامه بصوت وحرف ولا خطه رقم ورسم ولا حبره زاج وعفص فإن كنت لا تشاهد هذا هكذا فما أراك إلا مخنثاً بين فحولة التنزيه وأنوثة التشبيه مذبذباً بين هذا وذا لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء فكيف نزهت ذاته وصفاته تعالى عن الأجسام وصفاتها ونزهت كلامه عن معاني الحروف والأصوات وأخذت تتوقف في يده وقلمه ولوحه وخطه فإن كنت قد فهمت من قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ إن الله خلق آدم على صورته ‏"‏ الصورة الظاهرة المدركة بالبصر فكن مشبهاً مطلقاً كما يقال‏:‏ كن يهودياً صرفاً وإلا فلا تلعب بالتوراة وإن فهمت منه الصورة الباطنة التي تدرك بالبصائر لا بالأبصار فكن منزهاً صرفاً ومقدساً فخلا واطو الطريق فإنك بالواد المقدس طوى واستمع بسر قلبك لما يوحى فلعلك تجد على النار هدى ولعلك من سرادقات العرش تنادي بما نودي به موسى ‏"‏ إني أنا ربك ‏"‏ فلما سمع السالك من العلم ذلك استشعر قصور نفسه وأنه

مخنث بين التشبيه والتنزيه فاشتعل قلبه ناراً من حدة غضبه على نفسه لما رآها بعين النقص ولقد كان زيته الذي في مشكاة قلبه يكاد يضيء ولو لم تمسسه نار فلما نفخ فيه العلم بحدته اشتعل زيته فأصبح نوراً على نور فقال له العلم‏:‏ اغتنم الآن هذه الفرصة وافتح بصرك لعلك تجد على النار هدى ففتح بصره فانكشف له القلم الإلهي فإذا هو كما وصفه العلم في التنزيه ما هو من خشب ولا قصب ولا له رأس ولا ذنب وهو يكتب على الدوام في قلوب البشر كلهم أصناف العلوم وكأن له في كل قلب رأساً ولا رأس له فقضى منه العجب وقال‏:‏ نعم الرفيق العلم فجزاه الله تعالى عني خيراً إذ الآن ظهر لي صدق أنبائه عن أوصاف القلم فإني أراه قلماً لا كالأقلام فعند هذا ودع العلم وشكره وقال‏:‏ قد طال مقامي عندك ومرادتي لك وأنا عازم على أن أسافر إلى حضرة القلم وأسأله عن شأنه فسافر إليه وقال له‏:‏ ما بالك أيها القلم تخط على الدوام في القلوب من العلوم ما تبعث به الإرادات إلى أشخاص القدر وصرفها إلى المقدورات فقال‏:‏ أو قد نسيت ما رأيت في عالم الملك والشهادة وسمعت من جواب القلم إذ سألته فأحالك على اليد قال‏:‏ لم أنس ذلك‏.‏

قال‏:‏ فجوابي مثله جوابه قال‏:‏ كيف وأنت لا تشبهه قال القلم‏:‏ أما سمعت أن الله تعالى خلق آدم على صورته قال‏:‏ نعم قال فسل عن شأني الملقب بيمين الملك فإني في قبضته وهو الذي يرددني وأنا مقهور مسخر فلا فرق بين القلم الإلهي وقلم الآدمي في معنى التسخير وإنما الفرق في ظاهر الصورة فقال‏:‏ فمن يمين الملك فقال القلم‏:‏ أما سمعت قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ والسموات مطويات بيمينه ‏"‏ قال‏:‏ نعم قال‏:‏ والأقلام أيضاً في قبضة يمينه هو الذي يرددها فسافر السالك من عنده إلى اليمين حتى شاهده ورأى من عجائبه ما يزيد على عجائب القلم ولا يجوز وصف شيء من ذلك ولا شرحه بل لا تحوي مجلدات كثيرة عشر عشير وصفه والجملة فيه أنه يمين لا كالإيمان ويد لا كالأيدي وإصبع لا كالأصابع فرأى القلم محركاً في قبضته فظهر له عذر القلم فسأل اليمين عن شأنه وتحريكه للقلم فقال‏:‏ جوابي مثل ما سمعته من اليمين التي رأيتها في عالم الشهادة وهي الحوالة على القدرة إذ اليد لا حكم لها في نفسها وإنما محركها القدرة لا محالة فسافر السالك إلى عالم القدرة ورأى فيه من العجائب ما استحقر عندها ما قبله وسألها عن تحريك اليمين فقالت‏:‏ إنما أنا صفة فاسأل القادر إذ العمدة على الموصوفات لا على الصفات وعند هذا كاد أن يزيغ ويطلق بالجراءة لسان السؤال فثبت بالقول الثابت ونودي من وراء حجاب سرادقات الحضرة ‏"‏ لا يسأل عما يفعل وهم يسألون ‏"‏ فغشيته هيبة الحضرة فخر صعقاً يضطرب في غشيته فلما أفاق قال‏:‏ سبحانك ما أعظم شأنك تبت إليك وتوكلت عليك وآمنت بأنك الملك الجبار الواحد القهار فلا أخاف غيرك ولا أرجو سواك ولا أعوذ إلا بعفوك من عقابك وبرضاك من سخطك وما لي إلا أن أسألك وأتضرع إليك وأبتهل بين يديك فأقول‏:‏ اشرح لي صدري لأعرفك واحلل عقدة من لساني لأثني عليك فنودي من وراء الحجاب‏:‏ إياك أن تطمع في الثناء وتزيد على سيد الأنبياء بل ارجع إليه فما آتاك فخذه وما نهاك عنه فانته عنه وما قاله لك فقله فإنه ما زاد في هذه الحضرة على أن قال‏:‏ ‏"‏ سبحانك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك ‏"‏ فقال‏:‏ إلهي إن لم يكن للسان جرأة على الثناء عليك فهل للقلب مطمع في معرفتك فنودي‏:‏ إياك أن تتخطى رقاب الصديقين فارجع إلى الصديق الأكبر فاقتد به فإن أصحاب سيد الأنبياء كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم أما سمعته يقول‏:‏ العجز عن درك الإدراك إدراك فيكفيك نصيباً من حضرتنا أن تعرف أنك محروم عن حضرتنا عاجز عن ملاحظة جمالنا وجلالنا فعند ذلك رجع السالك واعتذر عن أسئلته ومعاتباته وقال لليمين والقلم والعلم والإرادة والقدرة وما بعدها‏:‏ اقبلوا عذري فإني كنت غريباً حديث العهد بالدخول في هذه البلاد ولكل داخل دهشة فما كان إنكاري عليكم إلى عن قصور وجهل والآن قد صح عندي عذركم وانكشف لي أن المنفرد بالملك والملكوت والعزة والجبروت هو الواحد القهار فما أنتم إلا مسخرون تحت قهره وقدرته مرددون في قبضته وهو الأول والآخر والظاهر والباطن فلما ذكر ذلك عالم الشهادة استبعد منه ذلك وقيل له‏:‏ كيف يكون هو الأول والاخر وهما وصفان متناقضان وكيف يكون هو الظاهر والباطن فالأول ليس بآخر والظاهر ليس بباطن فقال‏:‏ بالإضافة إلى الموجودات إذ صدر منه الكل على ترتيبه واحداً بعد واحد وهو الآخر بالإضافة إلى سير السائرين إليه فإنهم لا يزالون مترقين من منزل إلى منزل إلى أن يقع الانتهاء إلى تلك الحضرة فيكون ذلك آخر السفر فهو آخر في المشاهدة أول في الوجود وهو باطن بالإضافة إلى العاكفين في عالم الشهادة الطالبين لإدراكه بالحواس الخمس ظاهر بالإضافة إلى من يطلبه في السراج الذي اشتعل في قلبه بالبصيرة الباطنة النافذة في عالم الملكوت فهذا كان توحيد السالكين لطريق التوحيد في الفعل‏:‏ أعني من انكشف له أن الفاعل واحد‏.‏

فإن قلت‏:‏ قد انتهى هذا التوحيد إلى أنه يبتنى على الإيمان بعالم الملكوت فمن لم يفهم ذلك أو يجحده فما طريقه فأقول‏:‏ أما الجاحد فلا علاج له إلا أن يقال له‏:‏ إنكارك لعالم الملكوت كإنكار السمنية لعالم الجبروت وهم الذين حصروا العلوم في الحواس الخمس فأنكروا القدرة والإرادة والعلم لأنها لا تدرك بالحواس الخمس فلازموا حضيض عالم الشهادة بالحواس الخمس فإن قال‏:‏ وأنا منهم فإني لا أهتدي إلا إلى عالم الشهادة بالحواس الخمس ولا أعلم شيئاً سواه فيقال‏:‏ إنكارك لما شاهدناه مما وراء الحواس الخمس كإنكار السوفسطائية للحواس الخمس فإنهم قالوا‏:‏ ما نراه لا نثق به فلعلنا نراه في المنام فإن قال‏:‏ وأنا من جملتهم فإني شاكٍ أيضاً في المحسوسات فيقال‏:‏ هذا شخص فسد مزاجه وامتنع علاجه فيترك أياماً قلائل وما كل مريض يقوى على علاجه الأطباء‏:‏ هذا حكم الجاحد‏.‏

وأما الذي لا يجحد ولكن لا يفهم فطريق السالكين معه أن ينظروا إلى عينه التي يشاهد بها عالم الملكوت فإن وجدوها صحيحة في الأصل وقد نزل فيها ماء أسود يقبل الإزالة والتنقية اشتغلوا بتنقيته اشتغال الكحال بالأبصار الظاهرة فإذا استوى بصره أرشد إلى الطريق ليسلكها كما فعل ذلك صلى الله عليه وسلم بخواص أصحابه فإن كان غير قابل للعلاج فلم يمكنه أن يسلك الطريق الذي ذكرناه في التوحيد ولم يمكنه أن يسمع كلام ذرات الملك والملكوت بشهادة التوحيد كلموه بحرف وصوت وردوا ذروة التوحيد إلى حضيض فهمه فإن في عالم الشهادة أيضاً توحيداً إذ يعلم كل أحد أن المنزل يفسد بصاحبين والبلد يفسد بأميرين فيقال له على حد عقله إله العالم واحد والمدبر واحد إذ لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا فيكون ذلك على ذوق ما رآه في عالم الشهادة فينغرس اعتقاد التوحيد في قلبه بهذا الطريق اللائق بقدر عقله وقد كلف الله الأنبياء أن يكلموا الناس على قدر عقولهم ولذلك نزل القرآن بلسان العرب على حد عادتهم في المحاورة‏.‏

فإن قلت‏:‏ فمثل هذا التوحيد الاعتقادي هل يصلح أن يكون عماداً للتوكل وأصلاً فيه فأقول‏:‏ نعم فإن الاعتقاد إذا قوي عَمِلَ عَمَلَ الكشف في إثارة الأحوال إلا أنه في الغالب يضعف ويتسارع إليه الاضطراب والتزلزل غالباً ولذلك يحتاج صاحبه إلى متكلم يحرسه بكلامه أو إلى أن يتعلم هو الكلام ليحرس به العقيدة التي تلقنتها من أستاذه أو من أبويه أو من أهل بلده‏.‏

وأما الذي شاهد الطريق وسلكه بنفسه فلا يخاف عليه شيء من ذلك بل لو كشف الغطاء لما ازداد يقيناً وإن كان يزداد وضوحاً كما أن الذي يرى إنساناً في وقت الإسفار لا يزداد يقيناً عند طلوع الشمس بأنه إنسان ولكن يزداد وضوحاً في تفصيل خلقته وما مثال المكاشفين والمعتقدين إلا كسحرة فرعون مع أصحاب السامري فإن سحرة فرعون لما كانوا مطلعين على منتهى تأثير السحر لطول مشاهدتهم وتجربتهم رأوا من موسى عليه السلام ما جاوز حدود السحر وانكشف لهم حقيقة الأمر فلم يكترثوا بقول فرعون ‏"‏ لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ‏"‏ بل ‏"‏ قالوا لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات والذي فطرنا فاقض ما أنت قاض إنما تقضي هذه الحياة الدنيا ‏"‏ فإن البيان والكشف يمنع التغيير وأما أصحاب السامري لما كان إيمانهم عن النظر إلى ظاهر الثعبان فلما نظروا إلى عجل السامري وسمعوا خواره تغيروا وسمعوا قوله ‏"‏ هذا إلهكم وإله موسى ‏"‏ ونسوا أنه لا يرجع إليهم قولاً ولا يملك لهم ضراً ولا نفعاً‏:‏ فكل من آمن بالنظر إلى ثعبان يكفر لا محالة إذا نظر إلى عجل لأن كليهما من عالم الشهادة والاختلاف والتضاد في عالم الشهادة كثير‏.‏

وأما عالم الملكوت فهو من عند الله تعالى فلذلك لا نجد فيه اختلافاً وتضاداً أصلاً‏.‏

فإن قلت‏:‏ ما ذكرته من التوحيد ظاهر مهما ثبت أن الوسائط والأسباب مسخرات وكل ذلك ظاهر إلا في حركات الإنسان فإنه يتحرك إن شاء ويسكن إن شاء فكيف يكون مسخراً فاعلم أنه لو كان مع هذا يشاء إن أراد أن يشاء ولا يشاء إن لم يرد أن يشاء لكان هذا مزلة القدم وموقع الغلط ولكن علم أنه يفعل ما يشاء إذا شاء إن يشأ أم لم يشأ فليست المشيئة إليه إذ لو كانت إليه لافتقرت إلى مشيئة أخرى وتسلسل إلى غير نهاية وإذا لم تكن إليه المشيئة فمهما وجدت المشيئة التي تصرف القدرة إلى مقدورها انصرفت القدرة لا محالة ولم يكن لها سبيل إلى المخالفة فالحركة لازمة ضرورة بالقدرة والقدرة متحركة ضرورة عند انجزام المشيئة‏.‏

فالمشيئة تحدث ضرورة في القلب‏.‏

فهذا ضرورات ترتب بعضها على بعض وليس للعبد أن يدفع وجود المشيئة ولا انصراف القدرة إلى المقدور بعدها ولا وجود بعد بعث المشيئة للقدرة فهو مضطر في الجميع‏.‏

فإن قلت‏:‏ فهذا جبر محض والجبر يناقض الاختيار وأنت لا تنكر الاختيار فكيف يكون مجبوراً مختاراً فأقول‏:‏ لو انكشف الغطاء لعرفت أنه في عين الاختيار مجبور فهو إذن مجبور على الاختيار فكيف يفهم هذا من لا يفهم الاختيار فلنشرح الاختيار بلسان المتكلمين شرحاً وجيزاً يليق بما ذكر متطفلاً وتابعاً فإن هذا الكتاب لم نقصد به إلا علم المعاملة ولكني أقول لفظ الفعل في الإنسان يطلق على ثلاثة أوجه إذ يقال‏:‏ الإنسان يكتب بالأصابع ويتنفس بالرئة والحنجرة ويخرق الماء إذ وقف عليه بجسمه فينسب إليه الخرق في الماء والتنفس والكتابة وهذه

الثلاثة في حقيقة الاضطرار والجبر واحدة ولكنها تختلف وراء ذلك في أمور فأعرب لك عنها بثلاث عبارات‏:‏ فنسمي خرقه للماء عند وقوعه على وجهه فعلاً طبيعياً ونسمي تنفسه فعلاً إرادياً ونسمي كتابته فعلاً اختيارياً والجبر ظاهر في الفعل الطبيعي لأنه مهما وقف على وجه الماء أو تخطى من السطح للهواء انخرق الهواء لا محالة وقد يكون الخرق بعد التخطي ضرورياً والتنفس في معناه فإن نسبة حركة الحنجرة إلى إرادة التنفس كنسبة انخراق الماء إلى ثقل اليدين فمهما كان الثقل موجوداً وجد الانخراق بعده وليس الثقل إليه وكذلك الإرادة ليست إليه ولذلك لو قصد عين الإنسان بإبرة طبق الأجفان اضطراراً ولو أراد أن يتركها مفتوحة لم يقدر مع أن تغميض الأجفان اضطراراً فعل إرادي ولكنه إذا تمثل صورة الإبرة في مشاهدته بالإدراك حدثت الإرادة بالتغميض ضرورة وحدثت الحركة بها ولو أراد أن يترك ذلك لم يقدر عليه مع أنه فعل بالقدرة والإرادة فقد التحق هذا بالفعل الطبيعي في كونه ضرورياً وأما الثالث - وهو الاختيار - فهو مظنة الالتباس كالكتابة والنطق وهو الذي يقال فيه إن شاء فعل وإن شاء لم يفعل وتارة لا يشاء فيظن من هذا أن الأمر إليه وهذا للجهل بمعنى الاختيار فلنكشف عنه وبيانه‏:‏ أن الإرادة تبع للعلم الذي يحكم بأن الشيء موافق لك والأشياء تنقسم إلى ما تحكم مشاهدتك الظاهرة أو الباطنة بأنه يوافقك من غير تحير وتردد وإلى ما قد يتردد العقل فيه فالذي نقطع به من غير تردد أن من يقصد عينك مثلاً بإبرة أو بدنك بسيف فلا يكون في علمك تردد في أن دفع ذلك خير لك وموافق فلا جرم تنبعث الإرادة بالعلم‏.‏

والقدرة بالإرادة وتحصل حركة الأجفان بالدفع وحركة اليد برفع السيف ولكن من غير روية وفكرة ويكون ذلك بالإرادة ومن الأشياء ما يتوقف التمييز والعقل فيه فلا يدري أنه موافق أم لا فيحتاج إلى روية فكر حتى يتميز أن الخير في الفعل أو الترك فإذا حصل بالفكر والروية العلم بأن أحدهما خير التحق ذلك بالذي يقطع به من غير روية فكر فانبعثت الإرادة ههنا كما تنبعث لدفع السيف والسنان فإذا انبعثت لفعل ما ظهر للعقل أنه خير سميت هذه الإرادة اختياراً مشتقاً من الخير أي هو انبعاث إلى ما ظهر للعقل أنه خير وهو عين تلك الإرادة ولم ينتظر في انبعاثها إلى ما انتظرت تلك الإرادة وهو ظهور خيرية الفعل في حقه إلا أن الخيرية في دفع السيف ظهرت من غير روية بل على البديهة وهذا افتقر إلى الروية فالاختيار عبارة عن إرادة خاصة وهي التي انبعثت بإشارة العقل فيما له في إدراكه توقف وعن هذا قيل إن العقل يحتاج إليه للتمييز بين خير الخيرين وشر الشرين ولا يتصور أن تنبعث الإرادة إلا بحكم الحس والتخيل أو بحكم جزم من العقل ولذلك لو أراد الإنسان أن يحز رقبة نفسه مثلاً لم يمكنه لا لعدم القدرة في اليد ولا لعدم السكين ولكن لفقد الإرادة الداعية المشخصة للقدرة وإنما فقدت الإرادة لأنها تنبعث بحكم العقل أو الحسن بكون الفعل موافقاً وقتله نفسه ليس موافقاً له فلا يمكنه مع قوة الأعضاء أن يقتل نفسه إلا إذا كان في عقوبة مؤلمة لا تطاق فإن العقل هنا يتوقف في الحكم ويتردد لأن تردده بين شر الشرين فإن ترجح له بعد الروية أن ترك القتل أقل شراً لم يمكنه قتل نفسه وإن حكم بأن القتل أقل شراً وكان حكمه جزماً لا ميل فيه ولا صارف منه انبعثت الإرادة والقدرة وأهلك نفسه كالذي يتبع بالسيف للقتل فإنه يرمي بنفسه من السطح مثلاً وإن مهلكاً ولا يبالي ولا يمكنه أن لا يرمي نفسه فإن كان يتبع بضرب خفيف فإن انتهى إلى طرف السطح حكم العقل بأن الضرب أهون من الرمي فوقفت أعضاؤه فلا يمكنه أن يرمي نفسه ولا تنبعث له داعية البتة لأن داعية الإرادة مسخرة بحكم العقل والحس والقدرة مسخرة للداعية والحركة مسخرة للقدرة والكل مقدر بالضرورة فيه من حيث لا يدري فإنما هو محل ومجرى لهذه الأمور فأما أن يكون منه فكلا ولا فإذن معنى كونه مجبوراً أن جميع ذلك حاصل فيه من غيره لا منه ومعنى كونه مختاراً أنه محل لإرادة حدثت فيه جبراً بعد حكم العقل بكون الفعل خيراً محضاً موافقاً وحدث الحكم أيضاً جبراً فإذا هو مجبور على الاختيار ففعل النار في الإحراق مثلاً جبر محض وفعل الله تعالى اختيار محض وفعل الإنسان على منزلة بين المنزلتين فإنه جبر على الاختيار فطلب أهل الحق لهذا عبارة ثالثة لأنه لما كان فناً ثالثاً وائتموا فيه بكتاب الله تعالى فسموه كسباً وليس مناقضاً للجبر ولا للاختيار بل هو جامع بينهما عند فهمه وفعل الله تعالى يسمى اختياراً بشرط أن لا يفهم من الاختيار إرادة بعد تحير وتردد فإن ذلك في حقه محال وجميع الألفاظ المذكورة في اللغات لا يمكن أن تستعمل في حق الله تعالى إلا على نوع من الاستعارة والتجوز وذكر لا يليق بهذا العلم ويطول القول فيه‏.‏

فإن قلت‏:‏ فهل تقول إن العلم ولد الإرادة والإرادة ولدت القدرة والقدرة ولدت الحركة وأن كل متأخر حدث من المتقدم فإن قلت ذلك فقد حكمت بحدوث شيء لا من قدرة الله تعالى وإن أبيت ذلك فما معنى ترتب البعض من هذا على البعض فاعلم أن القول بأن بعض ذلك حدث عن بعض جهل محض سواء عبر عنه بالتولد أو بغيره بل حوالة جميع ذلك على المعنى الذي يعبر عنه بالقدرة الأزلية وهو الأصل الذي لم يقف كافة الخلق عليه إلا الراسخون في العلم فإنهم وقفوا على كنه معناه والكافة وقفوا على مجرد لفظه مع نوع تشبيه بقدرتنا وهو بعيد عن الحق وبيان ذلك يطول ولكن بعض المقدورات مترتب على البعض في الحدوث ترتب المشروط على الشرط فلا تصدر من القدرة الأزلية إرادة إلا بعد علم ولا علم إلا بعد محل الحياة وكما لا يجوز أن يقال الحياة تحصل من الجسم الذي هو شرط الحياة فكذلك في سائر درجات الترتيب ولكن بعض الشروط ربما ظهرت للعامة وبعضها لم يظهر إلا للخواص المكاشفين بنور الحق وإلا فلا يتقدم متقدم ولا يتأخر متأخر إلا بالحق واللزوم وكذلك جميع أفعال الله تعالى ولولا ذلك التقديم والتأخير عبثاً يضاهي فعل المجانين - تعالى الله عن قول الجاهلين علواً كبيراً‏.‏

وإلى هذا أشار قوله تعالى ‏"‏ وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدونِ ‏"‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏"‏ وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما لاعبين ما خلقناهما إلا بالحق ‏"‏ فكل ما بين السماء والأرض حادث على ترتيب واجب وحق لازم لا يتصور أن يكون إلا كما حدث وعلى هذا الترتيب الذي وجد فما تأخر متأخر إلا لانتظار شرطه والمشروط قبل الشرط محال والمحال لا يوصف بكونه مقدوراً فلا يتأخر العلم عن النطفة إلا لفقد شرط الحياة ولا تتأخر عنها الإرادة بعد العلم إلا لفقد شرط العلم وكل ذلك منهاج الواجب وترتيب الحق ليس في شيء من ذلك لعب واتفاق بل كل ذلك بحكمة وتدبير وتفهيم ذلك عسير ولكنا نضرب لتوقف المقدور مع وجود القدرة على وجود الشرط مثالاً يقرب مبادئ الحق من الأفهام الضعيفة وذلك بأن نقدر إنساناً محدثاً قد انغمس في الماء إلى رقبته فالحدث لا يرتفع عن أعضائه وإن كان الماء هو الرافع وهو ملاق له فقدر القدرة الأزلية حاضرة ملاقية للمقدورات متعلقة بها ملاقاة الماء للأعضاء ولكن لا يحصل بها المقدور كما لا يحصل رفع الحدث بالماء انتظاراً للشرط وهو غسل الوجه فإذا وضع الواقف في الماء وجهه على الماء عمل الماء في سائر أعضائه وارتفع الحدث فربما يظن الجاهل أن الحدث ارتفع عن اليدين برفعه عن الوجه لأنه حدث عقيبه إذ يقول‏:‏ كان الماء ملاقياً ولم يكن رافعاً والماء لم يتغير عما كان فكيف حصل منه ما لم يحصل من قبل بل حصل ارتفاع الحدث عن اليدين عند غسل الوجه فإذن غسل الوجه هو الرافع للحدث عن اليدين وهو جهل يضاهي ظن من يظن أن الحركة تحصل بالقدرة والقدرة تحصل بالإرادة والإرادة بالعلم وكل ذلك خطأ بل عند ارتفاع الحدث عن الوجه ارتفع الحدث عن اليد بالماء لها لا يغسل الوجه والماء لم يتغير واليد لم تتغير ولم يحدث فيهما شيء ولكن حدث وجود الشرط فظهر أثر العلة فهكذا ينبغي أن تفهم صدور المقدّرات عن القدرة الأزلية مع أن القدرة قديمة والمقدورات حادثة وهذا قرع باب آخر لعالم آخر من عوالم المكاشفات‏.‏

فلنترك جميع ذلك فإن مقصودنا التنبيه على طريق التوحيد في الفعل فإن الفاعل بالحقيقة واحد فهو المخوف والمرجو وعليه التوكل والاعتماد ولم نقدر على أن نذكر من بحار التوحيد إلا قطرة من بحر المقام الثالث من مقامات التوحيد واستيفاء ذلك في عمر نوح محال كاستيفاء ماء البحر بأخذ القطرات منه وكل ذلك ينطوي تحت قول لا إله إلا الله وما أخف مؤنته على اللسان‏!‏ وما أسهل اعتقاد مفهوم لفظه على القلب‏!‏ وما أعز حقيقته ولبه عند العلماء الراسخين في العلم فكيف عند غيرهم‏.‏

فإن قلت‏:‏ فكيف الجمع بين التوحيد والشرع‏:‏ ومعنى التوحيد‏:‏ أن لا فاعل إلا الله تعالى ومعنى الشرع إثبات الأفعال للعباد فإن كان العبد فاعلاً فكيف يكون الله تعالى فاعلاً وإن كان الله تعالى فكيف يكون العبد فاعلاً ومفعول بين فاعلين غير مفهوم فأقول‏:‏ نعم ذلك غير مفهوم إذا كان للفاعل معنى واحد وإن كان له معنيان ويكون الاسم مجملاً مردداً بينهما لم يتناقض كما يقال‏:‏ قتل الأمير فلاناً ويقال‏:‏ قتله الجلاد ولكن الأمير قاتل بمعنى والجلاد قاتل بمعنى آخر فكذلك العبد فاعل بمعنى والله عز وجل فاعل بمعنى آخر فمعنى كون الله تعالى أنه المخترع الموجد ومعنى كون العبد فاعلاً أنه المحل الذي خلق فيه القدرة بعد أن خلق فيه الإرادة بعد أن خلق فيه العلم فارتبطت القدرة بالإرادة والحركة بالقدرة ارتباطاً الشرط بالمشروط وارتبط بقدرة الله ارتباط المعلول بالعلة وارتباط المخترع بالمخترع وكل ما له ارتباط بقدرة فإن محل القدرة يسمى فاعلاً له كيفما كان الارتباط كما يسمى الجلاد قاتلاً والأمير قاتلاً لأن القتل ارتبط بقدرتهما ولكن على وجهين مختلفين فلذلك سمي فعلاً لهما فكذلك ارتباط المقدورات بالقدرتين ولأجل توافق ذلك وتطابقه نسب الله تعالى الأفعال في القرآن مرة إلى الملائكة ومرة إلى العباد ونسبها بعينها مرة أخرى إلى نفسه فقال الله تعالى في الموت ‏"‏ قل يتوفاكم ملك الموت ‏"‏ ثم قال عز وجل‏:‏ ‏"‏ الله يتوفى الأنفس حين موتها ‏"‏ وقال تعالى‏:‏ ‏"‏ أفرأيتم ما تحرثون ‏"‏ أضاف إلينا ثم قال تعالى‏:‏ ‏"‏ أنا صببنا ثم شققنا الأرض شقاً فأنبتنا فيها حباً وعنباً ‏"‏ وقال عز وجل‏:‏ ‏"‏ فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشراً سوياً ‏"‏ ثم قال تعالى‏:‏ ‏"‏ فنفخنا فيها من روحنا ‏"‏ وكان النافخ جبريل عليه السلام وكما قال تعالى‏:‏ ‏"‏ فإذا قرأناه فاتبع قرآنه ‏"‏ قيل في التفسير‏:‏ معناه إذا قرأه عليك جبريل‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏"‏ قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ‏"‏ فأضاف القتل إليهم والتعذيب إلى نفسه والتعذيب هو عين القتل بل صرح وقال تعالى‏:‏ ‏"‏ فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم ‏"‏ وقال تعالى‏:‏ ‏"‏ وما رميت إذا رميت ولكن الله رمى ‏"‏ وهو جمع بين النفي والإثبات ظاهراً ولكن معناه‏:‏ وما رميت بالمعنى الذي يكون الرب به رامياً إذ رميت بالمعنى الذي يكون العبد به رامياً إذ هما معنيان مختلفان‏.‏

وقال الله تعالى‏:‏ ‏"‏ الذي علم بالقلم على الإنسان ما لم يعلم ‏"‏ ثم قال‏:‏ ‏"‏ الرحمن علم القرآن ‏"‏ وقال‏:‏ ‏"‏ علمه البيان ‏"‏ وقال‏:‏ ‏"‏ ثم إن علينا بيانه ‏"‏ وقال‏:‏ ‏"‏ أفرأيتم ما تمنون أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون ‏"‏ ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في وصف ملك الأرحام‏:‏ ‏"‏ إنه يدخل الرحم فيأخذ النطفة في يده ثم يصورها جسداً فيقول‏:‏ يا رب أذكر أم أنثى أسوي أم معوج فيقول الله تعالى ما شاء ويخلق الملك ‏"‏ وفي لفظ آخر‏:‏ ‏"‏ ويصور الملك ثم ينفخ فيه الروح بالسعادة أو بالشقاوة ‏"‏‏.‏

وقد قال بعض السلف‏:‏ إن الملك الذي يقال له الروح هو الذي يولج الأرواح في الأجساد وأنه يتنفس بوصفه فيكون كل نفس من أنفاسه روحاً يلج في جسم ولذلك سمي روحاً وما ذكره في مثل هذا الملك وصفته فهو حق شاهده أرباب القلوب ببصائرهم فأما كون الروح عبارة عنه فلا يمكن أن يعلم إلا بالنقل والحكم به دون النقل تخمين مجرد وكذلك ذكر الله تعالى في القرآن من الأدلة والآيات في الأرض والسموات ثم قال‏:‏ ‏"‏ أو لم يكف بربك أنه على كل شيءٍ شهيد ‏"‏ وقال‏:‏ ‏"‏ شهد الله أنه لا إله إلا هو ‏"‏ فبين أنه الدليل على نفسه وذلك ليس متناقضاً بل طرق الاستدلال مختلفة فكم من طالب عرف الله تعالى بالنظر إلى الموجودات وكم من طالب عرف كل الموجودات بالله تعالى كما قال بعضهم‏:‏ عرفت ربي بربي ولولا ربي لما عرفت ربي وهو معنى قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ أو لم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد ‏"‏ وقد وصف الله تعالى نفسه بأنه المحيي والمميت ثم فوض الموت والحياة إلى ملكين ففي الخبر ‏"‏ أن ملكي الموت والحياة تناظرا فقال ملك الموت‏:‏ أنا أميت الأحياء وقال ملك الحياة‏:‏ أنا أحيي الموتى فأوحى الله تعالى إليهما‏:‏ كونا على عملكما وما سخرتكما له من الصنع وأنا المميت والمحيي لا يميت ولا يحيي سواي ‏"‏ فإذن الفعل يستعمل على وجوه مختلفة فلا تتناقض هذه المعاني إذا فهمت ولذلك قال صلى الله عليه وسلم للذي ناوله التمرة‏:‏ ‏"‏ خذها لو لم تأتها لأتتك ‏"‏ أضاف الإتيان إليه وإلى التمرة ومعلوم أن التمرة لا تأتي على الوجه الذي يأتي الإنسان إليها وكذلك لما قال التائب‏:‏ أتوب إلى الله تعالى ولا أتوب إلى محمد فقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ عرف الحق لأهله ‏"‏ فكل من أضاف الكل إلى الله تعالى فهو المحقق الذي عرف الحق والحقيقة ومن أضافه إلى غيره فهو المتجوز والمستعير في كلامه وللتجوز وجه كما أن للحقيقة وجهاً واسم الفاعل وضعه واضع اللغة للمخترع ولكن ظن أن الإنسان مخترع بقدرته فسماه فاعلاً بحركته وظن أنه تحقيق وتوهم أن نسبته إلى الله تعالى على سبيل المجاز مثل نسبة القتل إلى الأمير فإنه مجاز بالإضافة إلى نسبته إلى الجلاد فلما انكشف الحق لأهله عرفوا أن الأمر بالعكس وقالوا‏:‏ إن الفاعل قد وضعته أيها اللغوي للمخترع فلا فاعل إلا الله فالاسم له بالحقيقة ولغيره بالمجاز‏.‏

أي تتجوز به عما وضعه اللغوي له ولما جرى حقيقة المعنى على لسان بعض الأعراب قصداً أو اتفاقاً صدقه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ‏"‏ أصدق بيت قاله الشاعر قول لبيد‏:‏

*ألا كل شيء ما خلا الله باطل *

أي كل ما لا قوام له بنفسه - وإنما قوامه بغيره - فهو باعتبار نفسه باطل وإنما حقيته وحقيقته بغيره لا بنفسه فإذن لا حق بالحقيقة إلى الحي القيوم الذي ليس كمثله شيء فإنه قائم بذاته وكل ما سواه قائم بقدرته فهو الحق وما سواه باطل ولذلك قال سهل‏:‏ يا مسكين كان ولم تكن ويكون ولا تكون فلما كنت اليوم صرت تقول أنا وأنا كن الآن كما لم تكن فإنه اليوم كما كان‏.‏

فإن قلت‏:‏ فقد ظهر الآن أن الكل جبر فما معنى الثواب والعقاب والغضب والرضا وكيف غضبه على فعل نفسه فاعلم أن معنى ذلك قد أشرنا إليه في كتاب الشكر فلا نطول بإعادته فهذا هو القدر الذي رأينا الرمز إليه من التوحيد الذي يورث حالالتوكل ولا يتم هذا إلا بالإيمان بالرحمة والحكمة فإن التوحيد يورث النظر إلى مسبب الأسباب والإيمان بالرحمة وسعتها هو الذي يورث الثقة بمسبب الأسباب ولا يتم حال التوكل كما سيأتي إلا بالثقة بالوكيل وطمأنينة القلب إلى حسن نظر الكفيل وهذا بالإيمان أيضاً باب عظيم من أبواب الإيمان وحكاية طريق المكاشفين فيه تطول فلنذكر حاصله ليعتقده الطالب لمقام التوكل اعتقاداً قاطعاً لا يستريب فيه‏.‏

وهو أن يصدق تصديقاً يقينياً لا ضعف فيه ولا ريب أن الله عز وجل لو خلق الخلق كلهم على عقل أعقلهم وعلم أعلمهم وخلق لهم من العلم ما تحتمله نفوسهم وأفاض عليهم من الحكمة ما لا منتهى لوصفها ثم زاد مثل عدد جميعهم علماً وحكمة وعقلاً ثم كشف لهم عن عواقب الأمور وأطلعهم على أسرار الملكوت وعرفهم دقائق اللطف وخفايا العقوبات حتى اطلعوا به على الخير والشر والنفع والضر ثم أمرهم أن يدبروا الملك والملكوت بما أعطوا من العلوم والحكم لما اقتضى تدبير جميعهم مع التعاون والتظاهر عليه أن يزاد فيما دبر الله سبحانه الخلق به في الدنيا والآخرة جناح بعوضة ولا أن ينقص منها جناح بعوضة ولا أن يرفع منها ذرة ولا أن يخفض منها ذرة ولا أن يدفع مرض أو عيب أو نقص أو فقر أو ضر عمن بلي به ولا أن يزال صحة أو كمال أو غنى أو نفع عمن أنعم الله به عليه بل كل ما خلقه الله تعالى من السموات والأرض - إن رجعوا فيها البصر وطولوا فيها النظر - ما رأوا فيها من تفاوت ولا فطور وكل ما قسم الله تعالى بين عباده من رزق وأجل وسرور وحزن وعجز وقدرة وإيمان وكفر وطاعة ومعصية فكله عدل محض لا جور فيه وحق صرف لا ظلم فيه بل هو على الترتيب الواجب الحق على ما ينبغي وكما ينبغي وبالقدر الذي ينبغي وليس في الإمكان أصلاً أحسن منه ولا أتم ولا أكمل ولو كان وادخره مع القدرة ولم يتفضل بفعله لكان بخلاً يناقض الجود وظلماً يناقض العدل ولو لم يكن قادراً لكان عجزاً يناقض الإلهية بل كل فقر وضر في الدنيا فهو نقصان من الدنيا وزيادة في الآخرة وكل نقص في الآخرة بالإضافة إلى شخص فهو نعيم بالإضافة إلى غيره إذ لولا الليل لما عرف قدر النهار ولولا المرض لما تنعم الأصحاء بالصحة ولولا النار لما عرف أهل الجنة قدر النعمة وكما أن فداء أرواح الإنس بأرواح البهائم وتسليطهم على ذبحها ليس بظلم بل تقديم الكامل على الناقص عين العدل فكذلك تفخيم النعم على سكان الجنان بتعظيم العقوبة على أهل النيران وفداء أهل الإيمان بأهل الكفران عين العدل وما لم يخلق الناقص لا يعرف الكامل ولولا خلق البهائم لما ظهر شرف الإنس فإن الكمال والنقص يظهر بالإضافة فمقتضى الجود والحكمة خلق الكامل والناقص جميعاً وكما أن قطع اليد إذا تآكلت إبقاء على الروح عدل لأنه فداء كامل بناقص فكذلك الأمر في التفاوت الذي بين الخلق في القسمة في الدنيا والآخرة فكل ذلك عدل لا جور فيه وحق لا لعب فيه وهذا الآن بحر آخر عظيم العمق واسع الأطراف مضطرب الأمواج قريب في السعة من بحر التوحيد فيه غرق طوائف من القاصرين ولم يعلموا أن ذلك غامض لا يعقله إلا العالمون ووراء هذا البحر سر القدر الذي تحير فيه الأكثرون ومنع من إفشاء سره المكاشفون‏.‏

والحاصل أن الخير والشر مقضي به وقد كان ما قضى به واجب بعد سبق المشيئة فلا راد لحكمه ولا معقب لقضائه وأمره بل كل صغير وكبير مستطر وحصوله بقدر معلوم منتظر وما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك‏.‏

ولنقتصر على هذه المرامز من علوم المكاشفة التي هي أصول مقام التوكل ولنرجع إلى علم المعاملة إن شاء الله تعالى وحسبنا الله ونعم الوكيل‏.‏